egyption1

الثلاثاء، مايو ٣٠، ٢٠٠٦


المؤسسات المُعولمة وخطر الاستخفاف بالأيادي العاملة

ويليام فاف

الأحكام التي صدرت فيما يتعلق بقضية "إنرون" تمثل ضربة جديدة للنموذج الرأسمالي الأميركي الذي تعرض بالفعل لانتقادات عنيفة جراء انتهاكاته الفادحة للقيم الأخلاقية التي تتأسس على الإدراك والفطرة السليمة. وفي هذا الإطار كتب عالم الاقتصاد الأميركي "روبرت ليكاتشمان" في قاموس "هابر للفكر الحديث" يقول: "في الحقيقة أن الأيديولوجية الرأسمالية تقدم تأكيداً مضمراً مفاده أن عدم عدالة توزيع الدخل والثروات يقيس -وإن بشكل تقريبي- المساهمات الاقتصادية للرجال والنساء، الذين يسخِّرون طاقاتهم ومواردهم في العملية الإنتاجية".
والنموذج الاقتصادي الأميركي والمؤسساتي الجديد ينفصل بشكل يدعو للغرابة عن هذا الأساس الأخلاقي، وهو يفعل ذلك بطريقة تشي بإمكانية حدوث تداعيات نهائية ذات آثار مدمرة على المجتمع. فالدفاع الطبيعي الذي يقدمه النظام المؤسسي الأميركي عن قيامه بمنح مكافآت قدرها مليار دولار للمديرين التنفيذيين على سبيل المثال، هو دفاع عدمي يقول إن السوق هي التي تقرر النموذج الأخلاقي السائد في مجال الأعمال. بمعنى آخر أن كل إنسان يستطيع أن يهرب بما تصل إليه يداه. والحجة النظرية التي ينهض عليها هذا الدفاع هو أن مثل هذه المكافآت تُعد عنصراً ضرورياً في النظام الحديث، لأن تخليق القيمة للمستثمرين سينتج عنه توليد الرخاء للجميع بلا استثناء. فالثروة سيرشح جزء منها ويتسرب ويعم خيرها على الجميع، أو بمعنى آخر أن المد المرتفع سيؤدي إلى رفع الجميع معه.
لا يمكن اعتبار ذلك صحيحاً في عالم اليوم. فالمؤسسات المعولمة تُعرِّف العمل بأنه العنصر الذي يمثل أكثر تكاليفها الإنتاجية عادة كما أنه يعتبر من ناحية أخرى أسهل تلك التكاليف من حيث إمكانية التخفيض. معنى ذلك أن الإدارة تعتبر نفسها ملزمة بأن تحد إلى أقصى مدى ممكن "من عملية تسرب القيمة إلى العمال". ومعنى ذلك أن منظومة القيم السائدة في المؤسسات الأميركية في الوقت الراهن ترفض المبدأ الذي لقي تكريماً وتبجيلاً في أميركا وأوروبا فيما بعد الحرب العالمية الثانية، والذي يقوم على أن المشروع يجب أن يخدم مصالح العمال والمجتمع (من خلال دفع الضرائب) بالإضافة إلى مصالح المستثمرين والمديرين بالطبع.
وقد تم فرض منظومة القيم الجديدة هذه بواسطة جماعات المستثمرين كما جرى اعتمادها من قبل كليات إدارة الأعمال، والحكومات، ومعظم قطاعات المجتمع الاقتصادي، على الرغم من أن الفكرة القائلة إن الشركات عبارة عن "عملية تجميع للأصول التي يجب معالجتها والتعامل معها بغرض تعظيم عوائد حملة الأسهم" قد تعرضت لانتقادات من قبل البعض.
ومن المعروف أن الشركات تجد صعوبة في تخفيض تكاليف المواد الخام والطاقة. وأكثر التكاليف تعرضاً لإمكانية التخفيض هي تكلفة العمل. فالأجور الحقيقية، والمزايا يمكن تخفيضها، بل ويمكن -إذا ما دعت الضرورة- تقليص قوة العمل الحالية الموجودة في المؤسسة.
كان هذا صعباً بل مستحيلاً في الماضي لأن العمل كان ثابتاً وغير متنقل، علاوة على أنه كان غير متوفر بكثرة في معظم الأوقات، كما كان أيضاً منظماً أحياناً وقوياً من الناحية السياسية. أما بالنسبة للشركة أو المؤسسة المعولمة، فإن مشكلة تكلفة العمل بسيطة للغاية بل ويمكن القول إنها تمثل البساطة في حد ذاتها. فيمكن للشركة على سبيل المثال الاستغناء عن العمالة المحلية كلياً وتهجير العمل للخارج، أي تكليف عمال خارج حدود الدولة بتنفيذه، أو تحويل عملية الإنتاج برمتها وبكافة مكوناتها إلى الخارج للاستفادة من قوة العمل الرخيصة المتاحة.
وبهذه الطريقة، فإن الجزء الأكبر من القيمة التي تم تكوينها أثناء عملية الإنتاج يتم انتزاعه من قوة العمل المحلية، ومنحه لحملة الأسهم والمديرين. العمال الخارجيون ينتفعون بذلك إلى حد معين بالطبع، (وطالما أن الشركة التي تقوم بتهجير العمل لا تقوم بالانتقال إلى مصدر خارجي آخر أرخص لأداء الأعمال).
أما باقي القيمة المكتسبة فتتسرب أو "تتدفق" للأعلى إلى حمَلة الأسهم والمديرين. الشيء الوحيد المؤكد هو أن القيمة لم تعد تتسرب إلى قوة العمل المحلية كما كان يحدث من قبل. على الرغم من هذا فإنه عادة ما يتم الاحتفاء بذلك على أنه يمثل خطوة تقدمية، فطالما أن الدولة التي تورد قوة العمل الجديدة تستفيد، وأن مستهلكين آخرين يستفيدون لأن سعر السلعة يهبط، في نفس الوقت الذي يتم فيه تقديم النصح لقوة العمل الأصلية كي تعيد تدريب نفسها حتى تتمكن من الحصول على وظائف جديدة، أكثر تعقيداً، وعالية القيمة، في الصناعات فائقة التقنية والتي تعتمد على الابتكار والإبداع.
لن أشغل نفسي بشرح إلى أي حد تعتبر هذه الحجة تبسيطية، لأنني أريد أن أقدم حججي حول التداعيات البنائية للنموذج المؤسساتي الجديد من ناحية إقصائه للعمل وإبعاده عن استلامه حصته العادلة من القيمة التي ساهم في تكوينها من خلال عمله في المؤسسة.
الحجة الأولى، أن ذلك النموذج يدمر العمل والاقتصاد المحلي. فالعمال المحليون الذين يتم "تهجير" العمل الذي كانوا يقومون به، يتوقفون عن أن يكونوا مستهلكين. فنحن نجد مثلاً أن رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي الحالي "بن بيرنانكي" يقر بأن "قسماً متزايداً من السكان بدأ يشعر بأنه لا يشارك في الفوائد والمنافع التي تقوم الصناعة والتجارة الأميركية بإنتاجها".
ومما لاشك فيه أن الهبوط النسبي في مداخيل عائلات العمال خلال السنوات التي تم فيها تطبيق العولمة، وتخفيف الإجراءات الروتينية، قد أصبح شيئاً معروفاً، إلى درجة أن العمال الذين يعملون في مؤسسات تعتبر رمزاً لهذا النوع من الاقتصاد مثل "وول مارت" أصبحوا يعتمدون على كوبونات الأغذية الفيدرالية كي يعيشوا، كما أنهم يستخدمون غرف الطوارئ في المستشفى للحصول على الخدمات الطبية الأساسية. فليست هناك منافع أو مزايا تتسرب هنا إلى العمال.
إن النموذج المؤسساتي الذي يقوم بشكل متعمد بالتنصل من المسؤولية عن رفاهية قوة العمل، يقوم بتفريغ سوق العمل المحلي، ويقوم بتصدير القيمة من خلال دعم العمالة الأجنبية التي تنتمي إلى دول ستكون منافسة للاقتصاد الذي يعمل هذا النموذج في إطاره.
فالصين (والدول المماثلة) لن تسمح –إلى ما لا نهاية- بتحويل معظم أرباح صناعاتها التحويلية إلى أميركا، إذ سيجيء عليها وقت ستطلب فيه قدراً أكبر من تحويل التكنولوجيا. والاقتصاد الأميركي لا يستطيع أن يتوقع أنه سيزدهر إلى ما لا نهاية، دون أن يقوم فعلاً بتصنيع أو خلق أي شيء بنفسه. والنتيجة النهائية الواضحة لنمط الإنتاج القائم على "تهجير" العمل إلى الخارج، هي تصدير الصناعة الأميركية ذاتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيس"